فصل: الزِّيَادَةُ وَأَنْوَاعُهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.خَاتِمَةٌ:

تَارَةً لَا يُقَامُ شَيْءٌ مُقَامَ الْمَحْذُوفِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَارَةً يُقَامُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، نَحْو: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} [هُودٍ: 57]، فَلَيْسَ الْإِبْلَاغُ هُوَ الْجَوَابُ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى تَوَلِّيهِمْ، وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَلَا لَوْمَ عَلَيَّ، أَوْ فَلَا عُذْرَ لَكُمْ؛ لِأَنِّي أَبْلَغْتُكُمْ. {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فَاطِرٍ: 4]؛ أَيْ: فَلَا تَحْزَنْ وَاصْبِرْ. {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الْأَنْفَال: 38]؛ أَيْ: يُصِيبُهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ.

.فَصْلٌ: انْقِسَامُ الْإِطْنَابِ إِلَى بَسْطٍ وَزِيَادَةٍ:

كَمَا انْقَسَمَ الْإِيجَازُ إِلَى إِيجَازِ قَصْرٍ وَإِيجَازِ حَذْفٍ، كَذَلِكَ انْقَسَمَ الْإِطْنَابُ إِلَى بَسْطٍ وَزِيَادَةٍ.

.الْبَسْطُ:

فَالْأَوَّلُ: الْإِطْنَابُ بِتَكْثِيرِ الْجُمَلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ [164] فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَطْنَبَ فِيهَا أَبْلَغَ الْإِطْنَابِ لِكَوْنِ الْخِطَابِ مَعَ الثَّقَلَيْنِ، وَفِي كُلِّ عَصْرٍ وَحِينٍ، لِلْعَالِمِ مِنْهُمْ وَالْجَاهِلِ، وَالْمُوَافِقِ مِنْهُمْ وَالْمُنَافِقِ.
وَقَوْلِه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غَافِرٍ: 7]، فَقَوْلُهُ: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} إِطْنَابٌ؛ لِأَنَّ إِيمَانَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ مَعْلُومٌ، وَحَسَّنَهُ إِظْهَارُ شَرَفِ الْإِيمَانِ تَرْغِيبًا فِيهِ.
{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فُصِّلَتْ: 6، 7]، وَلَيْسَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُزَكٍّ، وَالنُّكْتَةُ: الْحَثُّ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَدَائِهَا، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْمَنْعِ؛ حَيْثُ جُعِلَ مِنْ أَوْصَافِ الْمُشْرِكِينَ.

.الزِّيَادَةُ وَأَنْوَاعُهَا:

وَالثَّانِي: يَكُونُ بِأَنْوَاعٍ:

.النَّوْعُ الْأَوَّلُ: دُخُولُ حَرْفٍ فَأَكْثَرَ مِنْ حُرُوفِ التَّأْكِيدِ السَّابِقَةِ فِي نَوْعِ الْأَدَوَاتِ:

أَحَدُهَا: دُخُولُ حَرْفٍ فَأَكْثَرَ مِنْ حُرُوفٍ التَّأْكِيدِ السَّابِقَةِ فِي نَوْعِ الْأَدَوَاتِ، وَهِيَ إِنَّ، وَأَنَّ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ وَالْقَسَمِ، وَأَلَا الِاسْتِفْتَاحِيَّةُ، وَأَمَا، وَهَاءُ التَّنْبِيهِ، وَكَأَنَّ فِي تَأْكِيدِ التَّشْبِيهِ، وَلَكِنَّ فِي تَأْكِيدِ الِاسْتِدْرَاكِ، وَلَيْتَ فِي تَأْكِيدِ التَّمَنِّي، وَلَعَلَّ فِي تَأْكِيدِ التَّرَجِّي، وَضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ، وَأَمَّا فِي تَأْكِيدِ الشَّرْطِ، وَقَدْ وَالسِّينُ وَسَوْفَ، وَالنُّونَانِ فِي تَأْكِيدِ الْفِعْلِيَّةِ، وَلَا التَّبْرِئَةِ، وَلَنْ، وَلَمَّا فِي تَأْكِيدِ النَّفْيِ.
وَإِنَّمَا يَحْسُنُ تَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِهَا إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ بِهِ مُنْكِرًا أَوْ مُتَرَدِّدًا. وَيَتَفَاوَتُ التَّأْكِيدُ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِنْكَارِ وَضَعْفِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ رُسُلِ عِيسَى إِذْ كَذَّبُوا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 14]، فَأَكَّدَ بِـ: (إِنَّ) وَاسْمِيَّةِ الْجُمْلَةِ، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَة: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 16]، فَأَكَّدَ بِالْقَسَمِ وَ(إِنَّ) وَاللَّامِ وَاسْمِيَّةِ الْجُمْلَةِ لِمُبَالَغَةِ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْإِنْكَارِ؛ حَيْثُ قَالُوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس: 15].
وَقَدْ يُؤَكَّدُ بِهَا، وَالْمُخَاطَبُ بِهِ غَيْرُ مُنْكِرٍ لِعَدَمِ جَرْيِهِ عَلَى مُقْتَضَى إِقْرَارِهِ، فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ، وَقَدْ يُتْرَكُ التَّأْكِيدُ وَهُوَ مَعَهُ مُنْكِرٌ؛ لِأَنَّ مَعَهُ أَدِلَّةً ظَاهِرَةً لَوْ تَأَمَّلَهَا لَرَجَعَ عَنْ إِنْكَارِهِ؛ وَلِذَلِكَ يُخَرَّجُ قَوْلُهُ {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 15، 16]، أَكَّدَ الْمَوْتَ تَأْكِيدَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُنْكِرْ، لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطِبِينَ- لِتَمَادِيهِمْ فِي الْغَفْلَةِ- تَنْزِيلَ مَنْ يُنْكِرُ الْمَوْتَ، وَأَكَّدَ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ تَأْكِيدًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ أَشَدَّ نَكِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أَدِلَّتُهُ ظَاهِرَةً كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ لَا يُنْكَرَ، فَنُزِّلَ الْمُخَاطَبُونَ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْمُنْكِرِ حَثًّا لَهُمْ عَلَى النَّظَرِ فِي أَدِلَّتِهِ الْوَاضِحَةِ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [الْبَقَرَة: 2]، نَفَى عَنْهُ الرِّيبَةَ بِـ: (لَا) عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ مَعَ أَنَّهُ ارْتَابَ فِيهِ الْمُرْتَابُونَ، لَكِنْ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ تَعْوِيلًا عَلَى مَا يُزِيلُهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْبَاهِرَةِ، كَمَا نُزِّلَ الْإِنْكَارُ مَنْزِلَةَ عَدَمِهِ لِذَلِكَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بُولِغَ فِي تَأْكِيدِ الْمَوْتِ تَنْبِيهًا لِلْإِنْسَانِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَلَا يَغْفُلُ عَنْ تَرَقُّبِهِ، فَإِنَّ مَآلَهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ أُكِّدَتْ جُمْلَتُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِهَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الدُّنْيَا يَسْعَى فِيهَا غَايَةَ السَّعْيِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَخْلُدُ، وَلَمْ يُؤَكِّدْ جُمْلَةَ الْبَعْثِ إِلَّا بِإِنَّ؛ لِأَنَّهُ أُبْرِزَ فِي صُورَةِ الْمَقْطُوعِ بِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ نِزَاعٌ، وَلَا يَقْبَلُ إِنْكَارًا.
وَقَالَ التَّاجُ بْنُ الْفِرْكَاح: أَكَّدَ الْمَوْتَ رَدًّا عَلَى الدَّهْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِبَقَاءِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَاسْتَغْنَى عَنْ تَأْكِيدِ الْبَعْثِ هُنَا لِتَأْكِيدِهِ وَالرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِهِ فِي مَوَاضِعَ؛ كَقَوْلِه: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التَّغَابُن: 7].
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا كَانَ الْعَطْفُ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ اسْتَغْنَى عَنْ إِعَادَةِ اللَّامِ لِذِكْرِهَا فِي الْأَوَّلِ.
وَقَدْ يُؤَكَّدُ بِهَا- أَيْ: بِاللَّامِ- لِلْمُسْتَشْرِفِ الطَّالِبِ الَّذِي قُدِّمَ لَهُ مَا يُلَوِّحُ بِالْخَبَرِ، فَاسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ إِلَيْهِ، نَحْو: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هُودٍ: 37]؛ أَيْ: لَا تَدْعُنِي يَا نُوحُ فِي شَأْنِ قَوْمِكَ، فَهَذَا الْكَلَامُ يُلَوِّحُ بِالْخَبَرِ تَلْوِيحًا، وَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، فَصَارَ الْمَقَامُ مَقَامَ أَنْ يَتَرَدَّدَ الْمُخَاطَبُ فِي أَنَّهُمْ: هَلْ صَارُوا مَحْكُومًا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ أَوْ لَا؟ فَقِيلَ: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ بِالتَّأْكِيدِ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [الْحَجّ: 1]، لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى، وَظُهُورُ ثَمَرَتِهَا، وَالْعُقَابُ عَلَى تَرْكِهَا مَحَلُّهُ الْآخِرَةُ، تَشَوَّقَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى وَصْفِ حَالِ السَّاعَةِ فَقَالَ: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الْحَجّ: 1]، بِالتَّأْكِيدِ لِيَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يُوسُفَ: 35] فِيهِ تَحْيِيرٌ لِلْمُخَاطَبِ وَتَرَدُّدٌ فِي أَنَّهُ كَيْفَ لَا يُبَرِّئُ نَفْسَهُ وَهِيَ بَرِيئةٌ زَكِيَّةٌ، ثَبَتَتْ عِصْمَتُهَا وَعَدَمُ مُوَاقَعَتِهَا السُّوءَ، فَأَكَّدَهُ بِقَوْلِه: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يُوسُفَ: 53].
وَقَدْ يُؤَكَّدُ لِقَصْدِ التَّرْغِيبِ، نَحْو: {فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [الْبَقَرَة: 37]، أَكَّدَ بِأَرْبَعِ تَأْكِيدَاتٍ تَرْغِيبًا لِلْعِبَادِ فِي التَّوْبَةِ، وَقَدْ سَبَقَ عَلَى أَدَوَاتِ التَّأْكِيدِ الْمَذْكُورَةِ وَمَعَانِيهَا وَمَوَاقِعِهَا فِي النَّوْعِ الْأَرْبَعِينِ.
فَائِدَةٌ: إِذَا اجْتَمَعَتْ إِنَّ وَاللَّامُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَكْرِيرِ الْجُمْلَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لِأَنَّ إِنَّ أَفَادَتِ التَّكْرِيرَ مَرَّتَيْنِ، فَإِذَا دَخَلَتِ اللَّامُ صَارَتْ ثَلَاثًا.
وَعَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّ اللَّامَ لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ، وَإِنَّ لِتَوْكِيدِ الِاسْمِ. وَفِيهِ تَجَوُّزٌ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيدَ لِلنِّسْبَةِ لَا لِلِاسْمِ وَلَا لِلْخَبَرِ، وَكَذَلِكَ نُونُ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةُ بِمَنْزِلَةِ تَكْرِيرِ الْفِعْلِ ثَلَاثًا، وَالْخَفِيفَةُ بِمَنْزِلَةِ تَكْرِيرِهِ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي نَحْو: (يَا أَيُّهَا)؛ الْأَلِفُ وَالْهَاءُ لَحِقَتَا أَيًّا تَوْكِيدًا، فَكَأَنَّكَ كَرَّرْتَ (يَا) مَرَّتَيْنِ، وَصَارَ الِاسْمُ تَنْبِيهًا. هَذَا كَلَامُهُ، وَتَابَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
فَائِدَةٌ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مَرْيَمَ: 66]، قَالَ الْجُرْجَانِيُّ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ: لَيْسَتِ اللَّامُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ، فَإِنَّهُ مُنْكِرٌ؛ فَكَيْفَ يُحَقِّقُ مَا يُنْكِرُ، وَإِنَّمَا قَالَهُ حِكَايَةً لِكَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّادِرِ مِنْهُ بِأَدَاءِ التَّأْكِيدِ، فَحَكَاهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ.

.النَّوْعُ الثَّانِي: دُخُولُ الْأَحْرُفِ الزَّائِدَةِ:

قَالَ ابْنُ جِنِّي: كُلُّ حَرْفٍ زِيدَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ إِعَادَةِ الْجُمْلَةِ مَرَّةً أُخْرَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيم: الْبَاءُ فِي خَبَرِ مَا وَلَيْسَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، كَمَا أَنَّ اللَّامَ لِتَأْكِيدِ الْإِيجَابِ.
وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنِ التَّأْكِيدِ بِالْحَرْفِ وَمَا مَعْنَاهُ، إِذْ إِسْقَاطُهُ لَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى، فَقَالَ: هَذَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الطِّبَاعِ، يَجِدُونَ مِنْ زِيَادَةِ الْحَرْفِ مَعْنًى لَا يَجِدُونَهُ بِإِسْقَاطِهِ.
قَالَ: وَنَظِيرُهُ الْعَارِفُ بِوَزْنِ الشِّعْرِ طَبْعًا، إِذَا تَغَيَّرَ عَلَيْهِ الْبَيْتُ بِنَقْصٍ أَنْكَرَهُ، وَقَالَ: أَجِدُ نَفْسِي عَلَى خِلَافِ مَا أَجِدُهَا بِإِقَامَةِ الْوَزْنِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْحُرُوفُ تَتَغَيَّرُ نَفْسُ الْمَطْبُوعِ بِنُقْصَانِهَا، وَيَجِدُ نَفْسَهُ بِزِيَادَتِهَا عَلَى مَعْنًى بِخِلَافِ مَا يَجِدُهَا بِنُقْصَانِهِ.
ثُمَّ بَابُ الزِّيَادَةِ فِي الْحُرُوفِ، وَزِيَادَةُ الْأَفْعَالِ قَلِيلٌ، وَالْأَسْمَاءُ أَقَلُّ.
أَمَّا الْحُرُوفُ فَيُزَادُ مِنْهَا: إِنْ، وَأَنْ، وَإِذْ، وَإِذَا، وَإِلَى، وَأَمْ، وَالْبَاءُ، وَالْفَاءُ، وَفِي، وَالْكَافُ، وَاللَّامُ، وَلَا، وَمَا، وَمِنْ، وَالْوَاوُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي نَوْعِ الْأَدَوَاتِ مَشْرُوحَةً.
وَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَزِيدَ مِنْهَا كَانَ، وَخُرِّجَ عَلَيْه: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مَرْيَمَ: 29]. وَأَصْبَحَ، وَخَرَّجَ عَلَيْه: {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [الْمَائِدَة: 53].
وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْعَادَةُ أَنَّ مَنْ بِهِ عِلَّةٌ تُزَادُ بِاللَّيْلِ أَنْ يَرْجُوَ الْفَرَجَ عِنْدَ الصَّبَاحِ، فَاسْتَعْمَلَ أَصْبَحَ لِأَنَّ الْخُسْرَانَ حَصَلَ لَهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَرْجُونَ فِيهِ الْفَرَجَ، فَلَيْسَتْ زَائِدَةً.
وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَنَصَّ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُزَادُ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا بِالزِّيَادَةِ فِي مَوَاضِعَ كَلَفْظِ (مِثْلِ) فِي قَوْلِه: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [الْبَقَرَة: 137]؛ أَيْ: بِمَا.

.النَّوْعُ الثَّالِثُ: التَّأْكِيدُ الصِّنَاعِيُّ:

وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: التَّوْكِيدُ الْمَعْنَوِيُّ بِكُلٍّ وَأَجْمَعَ وَكِلَا وَكِلْتَا، نَحْو: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الْحِجْر: 30].
وَفَائِدَتُهُ: رَفْعُ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ وَعَدَمِ الشُّمُولِ.
وَادَّعَى الْفَرَّاءُ أَنَّ (كُلُّهُمْ) أَفَادَتْ ذَلِكَ، وَ(أَجْمَعُونَ) أَفَادَتِ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى السُّجُودِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْجُدُوا مُتَفَرِّقِينَ.
ثَانِيهَا: التَّأْكِيدُ اللَّفْظِيُّ؛ وَهُوَ تَكْرَارُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ.
إِمَّا بِمُرَادِفِهِ، نَحْو: {ضَيِّقًا حَرَجًا} [الْأَنْعَام: 25] بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَ: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فَاطِرٍ: 27]، وَجَعَلَ مِنْهُ الصَّفَّارُ: {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الْأَحْقَاف: 26] عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كِلَيْهِمَا لِلنَّفْيِ وَجَعَلَ مِنْهُ غَيْرُهُ: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الْحَدِيد: 13]، فَـ: (وَرَاءَ) هُنَا لَيْسَ ظَرْفًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ (ارْجِعُوا) يُنْبِئُ عَنْهُ، بَلْ هُوَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى ارْجِعُوا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: ارْجِعُوا، ارْجِعُوا.
وَإِمَّا بِلَفْظِه: وَيَكُونُ فِي الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ وَالْجُمْلَة:
فَالِاسْمُ، نَحْو: {قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ} [الْإِنْسَان: 15، 16]، {دَكًّا دَكًّا} [الْفَجْر: 21].
وَالْفِعْلُ: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ} [الطَّارِق: 17].
وَاسْمُ الْفِعْل: نَحْو: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 36].
وَالْحَرْفُ: نَحْو: {فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} [هُودٍ: 108]، {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ} [الْمُؤْمِنُونَ: 36].
وَالْجُمْلَةُ: نَحْو: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشَّرْح: 5، 6]، وَالْأَحْسَنُ اقْتِرَانُ الثَّانِيَةِ بِثُمَّ، نَحْو: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الِانْفِطَار: 17، 18]، {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التَّكَاثُر: 3، 4].
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ بِالْمُنْفَصِلِ، نَحْو: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الْبَقَرَة: 35]، {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} [الْمَائِدَة: 24]، {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الْأَعْرَاف: 115].
وَمِنْهُ تَأْكِيدُ الْمُنْفَصِلِ بِمِثْلِه: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يُوسُفَ: 37].
ثَالِثُهَا: تَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِمَصْدَرِهِ، وَهُوَ عِوَضٌ مِنْ تَكْرَارِ الْفِعْلِ مَرَّتَيْنِ.
وَفَائِدَتُهُ: رَفْعُ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ فِي الْفِعْلِ بِخِلَافِ التَّوْكِيدِ السَّابِقِ فَإِنَّهُ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. كَذَا فَرَّقَ بِهِ ابْنُ عُصْفُورٍ وَغَيْرُهُ، وَمِنْ ثَمَّ رَدَّ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي دَعْوَاهُ نَفْيَ التَّكْلِيمِ حَقِيقَةً بِقَوْلِه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النِّسَاء: 164]؛ لِأَنَّ التَّوْكِيدَ رَفَعَ الْمَجَازَ فِي الْفِعْلِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِه: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الْأَحْزَاب: 56]، {تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطُّور: 9، 10]، {جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الْإِسْرَاء: 63]، وَلَيْسَ مِنْهُ {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الْأَحْزَاب: 10]، بَلْ هُوَ جَمْعُ (ظَنٍّ) لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، وَأَمَّا {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الْأَنْعَام: 80]، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ.
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنْ يُنْعَتَ بِالْوَصْفِ الْمُرَادِ، نَحْو: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الْأَحْزَاب: 41]، {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الْأَحْزَاب: 49]، وَقَدْ يُضَافُ وَصْفُهُ إِلَيْهِ، نَحْو: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 102]، وَقَدْ يُؤَكَّدُ بِمَصْدَرِ فِعْلٍ آخَرَ أَوِ اسْمِ عَيْنٍ نِيَابَةً عَنِ الْمَصْدَرِ، نَحْو: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [الْمُزَّمِّل: 8]، وَالْمَصْدَرُ تَبَتُّلًا، وَالتَّبْتِيلُ مَصْدَرُ بَتَّلَ. {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نُوحٍ: 17]؛ أَيْ: إِنْبَاتًا؛ إِذِ النَّبَاتُ اسْمُ عَيْنٍ.
رَابِعُهَا: الْحَالُ الْمُؤَكِّدَةُ، نَحْو: {يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مَرْيَمَ: 33]، {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الْبَقَرَة: 60]، {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النِّسَاء: 79]، {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [الْبَقَرَة: 83]، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 31].
وَلَيْسَ مِنْهُ: {وَلَّى مُدْبِرًا} [النَّمْل: 10]؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ قَدْ لَا تَكُونُ إِدْبَارًا بِدَلِيلِ قَوْلِه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَة: 144]، وَلَا: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا} [النَّمْل: 19]؛ لِأَنَّ التَّبَسُّمَ قَدْ لَا يَكُونُ ضَحِكًا، وَلَا: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [الْبَقَرَة: 91]، لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ؛ إِذْ كَوْنُهُ حَقًّا فِي نَفْسِهِ غَيْرُ كَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا قَبْلَهُ.

.النَّوْعُ الرَّابِع: التَّكْرِيرُ:

وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الْفَصَاحَةِ خِلَافًا لِبَعْضِ مَنْ غَلِطَ.
وَلَهُ فَوَائِدُ:
مِنْهَا: التَّقْرِيرُ: وَقَدْ قِيلَ الْكَلَامُ إِذَا تَكَرَّرَ تَقَرَّرَ، وَقَدْ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَرَّرَ الْأَقَاصِيصَ وَالْإِنْذَارَ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِه: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113].
وَمِنْهَا: التَّأْكِيدُ.
وَمِنْهَا: زِيَادَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا يَنْفِي التُّهْمَةَ لِيَكْمُلَ تَلَقِّي الْكَلَامِ بِالْقَبُولِ، وَمِنْهُ: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غَافِرٍ: 38، 39]، فَإِنَّهُ كَرَّرَ فِيهِ النِّدَاءَ لِذَلِكَ.
وَمِنْهَا: إِذَا طَالَ الْكَلَامُ، وَخُشِيَ تَنَاسِي الْأَوَّلِ، أُعِيدَ ثَانِيهَا تَطْرِيَةً لَهُ وَتَجْدِيدًا لِعَهْدِهِ، وَمِنْهُ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} [النَّحْل: 119]، {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} [النَّحْل: 110]، {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِه: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [الْبَقَرَة: 89]، {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آلِ عِمْرَانَ: 188]، {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ} [يُوسُفَ: 4].
وَمِنْهَا: التَّعْظِيمُ وَالتَّهْوِيلُ، نَحْو: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [الْحَاقَّة: 1، 2]، {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} [الْقَارِعَة: 1، 2]، {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الْوَاقِعَة: 28].
فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا النَّوْعُ أَحَدُ أَقْسَامِ النَّوْعِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنَّ مِنْهَا التَّأْكِيدَ بِتَكْرَارِ اللَّفْظِ، فَلَا يَحْسُنُ عَدُّهُ نَوْعًا مُسْتَقِلًّا.
قُلْتُ: هُوَ يُجَامِعُهُ وَيُفَارِقُهُ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ وَيَنْقُصُ عَنْهُ، فَصَارَ أَصْلًا بِرَأْسِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ التَّأْكِيدُ تَكْرَارًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَمْثِلَتِهِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ تَكْرَارًا كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا، وَقَدْ يَكُونُ التَّكْرِيرُ غَيْرَ تَأْكِيدٍ صِنَاعَةً، وَإِنْ كَانَ مُفِيدًا لِلتَّأْكِيدِ مَعْنًى.
وَمِنْهُ مَا وَقَعَ فِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُكَرَّرَيْنِ، فَإِنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤَكَّدِهِ، نَحْو: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الْحَشْر: 18]، {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 42]، فَالْآيَتَانِ مِنْ بَابِ التَّكْرِيرِ لَا التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ الصِّنَاعِيِّ.
وَمِنْهُ: الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي التَّكْرِيرِ لِلطُّولِ.
وَمِنْهُ: مَا كَانَ لِتَعَدُّدِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُكَرَّرُ ثَانِيًا مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَوَّلُ، وَهَذَا الْقِسْمُ يُسَمَّى بِالتَّرْدِيدِ؛ كَقَوْلِه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النُّور: 35]، وَقَعَ فِيهَا التَّرْدِيدُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ.
وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرَّحْمَن: 13، 16]، فَإِنَّهَا وَإِنْ تَكَرَّرَتْ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً فَكُلُّ وَاحِدَةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهَا؛ وَلِذَلِكَ زَادَتْ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَوْ كَانَ الْجَمِيعُ عَائِدًا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَمَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ: وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا لَيْسَ بِنِعْمَةٍ، فَذِكْرُ النِّقْمَةِ لِلتَّحْذِيرِ نِعْمَةٌ.
وَقَدْ سُئِلَ: أَيُّ نِعْمَةٍ فِي قَوْلِه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرَّحْمَن: 26]؟ فَأُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ أَحْسَنُهَا: النَّقْلُ مِنْ دَارِ الْهُمُومِ إِلَى دَارِ السُّرُورِ، وَإِرَاحَةُ الْمُؤْمِنِ وَالْبَارِّ مِنَ الْفَاجِرِ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} فِي سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَصَصًا مُخْتَلِفَةً، وَأَتْبَعَ كُلَّ قِصَّةٍ بِهَذَا الْقَوْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ عَقِبَ كُلِّ قِصَّةٍ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَكَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [الْآيَة: 8]: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} كُرِّرَتْ ثَمَانِي مَرَّاتٍ، كُلُّ مَرَّةٍ عَقِبَ كُلِّ قِصَّةٍ، فَالْإِشَارَةُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ بِذَلِكَ إِلَى قِصَّةِ النَّبِيِّ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، وَبِقَوْلِه: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَلَمَّا كَانَ مَفْهُومُهُ أَنَّ الْأَقَلَّ مَنْ قَوْمِهِ آمَنُوا أَتَى بِوَصْفِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعِزَّةَ عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَالرَّحْمَةَ لِمَنْ آمَنَ.
وَكَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [الْآيَة: 17]، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَرَّرَ لِيَجِدُوا عِنْدَ سَمَاعِ كُلِّ نَبَإٍ مِنْهَا اتِّعَاظًا وَتَنْبِيهًا، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْأَنْبَاءِ مُسْتَحِقٌّ لِاعْتِبَارٍ يَخْتَصُّ بِهِ، وَأَنْ يَتَنَبَّهُوا كَيْلَا يَغْلِبَهُمُ السُّرُورُ وَالْغَفْلَةُ.
قَالَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاح: فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِكُلِّ مَا قَبْلَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِطْنَابٍ، بَلْ هِيَ أَلْفَاظٌ؛ كُلٌّ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا أُرِيدَ بِالْآخَرِ.
قُلْتُ: إِذَا قُلْنَا: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ أُرِيدَ بِهِ مَا أُرِيدَ بِالْآخَرِ، وَلَكِنْ كُرِّرَ لِيَكُونَ نَصًّا فِيمَا يَلِيهِ وَظَاهِرًا فِي غَيْرِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: يَلْزَمُ التَّأْكِيدُ.
قُلْتُ: وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يُزَادُ بِهِ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ ذَاكَ فِي التَّأْكِيدِ الَّذِي هُوَ تَابِعٌ، أَمَّا ذِكْرُ الشَّيْءِ فِي مَقَامَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَا يَمْتَنِعُ. انْتَهَى.
وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} إِلَى قَوْلِه: {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النِّسَاء: 131، 132]، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ تَكْرَارِ قَوْلِه: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فِي آيَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا فِي أَثَرِ الْأُخْرَى؟ قُلْنَا: لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الْخَبَرَيْنِ عَمَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنْهُ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ ذِكْرُ حَاجَتِهِ إِلَى بَارِئِهِ وَغِنَى بَارِئِهِ عَنْهُ، وَفِي الْأُخْرَى حِفْظُ بَارِئِهِ إِيَّاهُ وَعِلْمُهُ بِهِ وَبِتَدْبِيرِهِ.
قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَا قِيلَ: (وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)، قِيلَ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مَا يَصْلُحُ أَنْ تُخْتَتَمَ بِوَصْفِهِ مَعَهُ بِالْحِفْظِ وَالتَّدْبِيرِ. انْتَهَى.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آلِ عِمْرَانَ: 78]، قَالَ الرَّاغِبُ: الْكِتَابُ الْأَوَّلُ مَا كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمُ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [الْبَقَرَة: 79]، وَالْكِتَابُ الثَّانِي التَّوْرَاةُ، وَالثَّالِثُ لِجِنْسِ كُتُبِ اللَّهِ كُلِّهَا؛ أَيْ: مَا هُوَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا يُظَنُّ تَكْرَارًا وَلَيْسَ مِنْهُ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الْكَافِرُونَ: 1، 2]، إِلَى آخِرِهَا، فَإِنَّ: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أَيْ: فِي الْمُسْتَقْبَلِ، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ}؛ أَيْ: فِي الْحَالِ، {مَا أَعْبُدُ} فِي الْمُسْتَقْبَلِ، {وَلَا أَنَا عَابِدٌ}؛ أَيْ: فِي الْحَالِ، {مَا عَبَدْتُمْ} فِي الْمَاضِي، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ}؛ أَيْ: فِي الْمُسْتَقْبَلِ، {مَا أَعْبُدُ}؛ أَيْ: فِي الْحَالِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَصْدَ نَفْيُ عِبَادَتِهِ لِآلِهَتِهِمْ فِي الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ.
وَكَذَا: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [الْبَقَرَة: 198]، ثُمَّ قَالَ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [الْبَقَرَة: 200]، ثُمَّ قَالَ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [الْبَقَرَة: 203]، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَذْكَارِ غَيْرُ الْمُرَادِ بِالْآخَرِ.
فَالْأَوَّلُ: الذِّكْرُ فِي مُزْدَلِفَةٍ عِنْدَ الْوُقُوفِ بِقُزَحَ، وَقَوْلُهُ: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} إِشَارَةٌ إِلَى تَكَرُّرِهِ ثَانِيًا وَثَالِثًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ بِدَلِيلِ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ}، وَالذِّكْرُ الثَّالِثُ: إِشَارَةٌ إِلَى رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالذِّكْرُ الْأَخِيرُ: لِرَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَمِنْهُ: تَكْرِيرُ حَرْفِ الْإِضْرَابِ فِي قَوْلِه: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الْأَنْبِيَاء: 5]، وَقَوْلُهُ: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النَّمْل: 66].
وَمِنْهُ: قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [الْبَقَرَة: 236]، ثُمَّ قَالَ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [الْبَقَرَة: 241]، فَكَرَّرَ الثَّانِي لِيَعُمَّ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ، فَإِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْفَرْضِ وَالْمُسِيسِ خَاصَّةً.
وَقِيلَ: لِأَنَّ الْأُولَى لَا تُشْعِرُ بِالْوُجُوبِ، وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَة: إِنْ شِئْتُ أَحْسَنْتُ وَإِنْ شِئْتُ فَلَا، فَنَزَلَتِ الثَّانِيَةُ. أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ تَكْرِيرُ الْأَمْثَالِ كَقَوْلِه: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فَاطِرٍ: 19- 23].
وَكَذَلِكَ ضَرَبَ مَثَلَ الْمُنَافِقِينَ أَوَّلَ الْبَقَرَةِ بِالْمُسْتَوْقِدِ نَارًا، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِأَصْحَابِ الصَّيِّبِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالثَّانِي أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيْرَةِ وَشِدَّةِ الْأَمْرِ وَفَظَاعَتِهِ.
قَالَ: وَلِذَلِكَ آخِرُهُمْ يَتَدَرَّجُونَ فِي نَحْوِ هَذَا مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ.
وَمِنْ ذَلِكَ تَكْرِيرُ الْقِصَصِ كَقِصَّةِ آدَمَ وَمُوسَى وَنُوحٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: ذَكَرَ اللَّهُ مُوسَى فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَوَاصِم: ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ نُوحٍ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ آيَةً، وَقِصَّةَ مُوسَى فِي تِسْعِينَ آيَةً.
وَقَدْ أَلَّفَ الْبَدْرُ ابْنُ جَمَاعَةَ كِتَابًا سَمَّاهُ الْمُقْتَنَصُ فِي فَوَائِدِ تَكْرَارِ الْقَصَصِ، وَذَكَرَ فِي تَكْرِيرِ الْقَصَصِ فَوَائِدُ.
مِنْهَا: أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ زِيَادَةَ شَيْءٍ لَمْ يُذْكَرْ فِي الَّذِي قَبْلَهُ أَوْ إِبْدَالَ كَلِمَةٍ بِأُخْرَى لِنُكْتَةٍ، وَهَذِهِ عَادَةُ الْبُلَغَاءِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَسْمَعُ الْقِصَّةَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ يُهَاجِرُ بَعْدَهُ آخَرُونَ يَحْكُونَ مَا نَزَلْ بَعْدَ صُدُورِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ، فَلَوْلَا تَكْرَارُ الْقِصَصِ لَوَقَعَتْ قِصَّةُ مُوسَى إِلَى قَوْمٍ، وَقِصَّةُ عِيسَى إِلَى آخَرِينَ، وَكَذَا سَائِرُ الْقَصَصِ، فَأَرَادَ اللَّهُ اشْتِرَاكَ الْجَمِيعِ فِيهَا، فَيَكُونُ فِيهِ إِفَادَةٌ لِقَوْمٍ وَزِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِآخَرِينَ.
وَمِنْهَا: أَنَّ فِي إِبْرَازِ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ وَأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ مَا لَا يَخْفَى مِنَ الْفَصَاحَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الدَّوَاعِيَ لَا تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِهَا كَتَوَفُّرِهَا عَلَى نَقْلِ الْأَحْكَامِ؛ فَلِهَذَا كُرِّرَتِ الْقِصَصُ دُونَ الْأَحْكَامِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَعَجَزَ الْقَوْمُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، بِأَيِّ نَظْمٍ جَاءُوا، ثُمَّ أَوْضَحَ الْأَمْرَ فِي عَجْزِهِمْ بِأَنْ كَرَّرَ ذِكْرَ الْقِصَّةِ فِي مَوَاضِعَ إِعْلَامًا بِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، بِأَيِّ نَظْمٍ جَاءُوا، وَبِأَيِّ عِبَارَةٍ عَبَّرُوا.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَمَّا تَحَدَّاهُمْ قَالَ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [الْبَقَرَة: 23]، فَلَوْ ذُكِرَتِ الْقِصَّةُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَاكْتُفِيَ بِهَا، لَقَالَ الْعَرَبِيُّ: ائْتُونَا أَنْتُمْ بِسُورَةٍ مَنْ مِثْلِهِ، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي تَعْدَادِ السُّورِ، دَفْعًا لِحُجَّتِهِمْ مَنْ كَلِّ وَجْهٍ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ لَمَّا كُرِّرَتْ كَانَ فِي أَلْفَاظِهَا فِي كُلِّ مَوْضِعِ زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَأَتَتْ عَلَى أُسْلُوبٍ غَيْرِ أُسْلُوبِ الْأُخْرَى، فَأَفَادَ ذَلِكَ ظُهُورَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ فِي إِخْرَاجِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فِي صُوَرٍ مُتَبَايِنَةٍ فِي النَّظَرِ وَجَذْبِ النُّفُوسِ إِلَى سَمَاعِهَا، لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ مِنْ حُبِّ التَّنَقُّلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَجَدِّدَةِ وَاسْتِلْذَاذِهَا بِهَا، وَإِظْهَارِ خَاصَّةِ الْقُرْآنِ؛ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلُ مَعَ تَكْرِيرِ ذَلِكَ فِيهِ هُجْنَةٌ فِي اللَّفْظِ، وَلَا مَلَلٌ عِنْدَ سَمَاعِهِ، فَبَايَنَ ذَلِكَ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ.
وَقَدْ سُئِلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ تَكْرِيرِ قِصَّةِ يُوسُفَ وَسَوقِهَا مَسَاقًا وَاحِدًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْقَصَصِ؟ وَأُجِيبُ بِوُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ فِيهَا تَشْبِيبَ النِّسْوَةِ بِهِ، وَحَالَ امْرَأَةٍ وَنِسْوَةٍ افْتَتَنُوا بِأَبْدَعِ النَّاسِ جَمَالًا، فَنَاسَبَ عَدَمَ تَكْرَارِهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِغْضَاءِ وَالسِّتْرِ، وَقَدْ صَحَّحَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ سُورَةَ يُوسُفَ.
ثَانِيهَا: أَنَّهَا اخْتَصَّتْ بِحُصُولِ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْقَصَصِ، فَإِنَّ مَآلَهَا إِلَى الْوَبَالِ، كَقِصَّةِ إِبْلِيسَ، وَقَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ، فَلَمَّا اخْتُصَّتْ بِذَلِكَ اتَّفَقَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ سَمْتِ الْقَصَصِ.
ثَالِثُهَا: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِنَّمَا كَرَّرَ اللَّهُ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ، وَسَاقَ قِصَّةَ يُوسُفَ مَسَاقًا وَاحِدًا إِشَارَةً إِلَى عَجْزِ الْعَرَبِ، كَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: إِنْ كَانَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي فَافْعَلُوا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ مَا فَعَلْتُ فِي سَائِرِ الْقَصَصِ.
قُلْتُ: وَظَهَرَ لِي جَوَابٌ رَابِعٌ؛ وَهُوَ أَنَّ سُورَةَ يُوسُفَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ طَلَبِ الصَّحَابَةِ أَنْ يَقُصَّ عَلَيْهِمْ، كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ فَنَزَلَتْ مَبْسُوطَةً تَامَّةً لِيَحْصُلَ لَهُمْ مَقْصُودُ الْقَصَصِ مِنَ اسْتِيعَابِ الْقِصَّةِ، وَتَرْوِيحِ النَّفْسِ بِهَا، وَالْإِحَاطَةِ بِطَرَفَيْهَا.
وَجَوَابٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَقْوَى مَا يُجَابُ بِه: إِنَّ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا كُرِّرَتْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا إِفَادَةُ إِهْلَاكِ مَنْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ لِتَكْرِيرِ تَكْذِيبِ الْكَفَّارِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلَّمَا كَذَّبُوا نَزَلَتْ قِصَّةٌ مُنْذِرَةٌ بِحُلُولِ الْعَذَابِ كَمَا حَلَّ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الْأَنْفَال: 38]، {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الْأَنْعَام: 6]، وَقِصَّةُ يُوسُفَ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا ذَلِكَ، وَبِهَذَا أَيْضًا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ حِكْمَةِ عَدَمِ تَكْرِيرِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَقِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ وَقِصَّةِ الذَّبِيحِ.
فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ تَكَرَّرَتْ قِصَّةُ وِلَادَةِ يَحْيَى وَوِلَادَةِ عِيسَى مَرَّتَيْنِ، وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ مَا ذَكَرْتَ.
قُلْتُ: الْأُولَى فِي سُورَةِ (كهيعص)، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، أُنْزِلَتْ خِطَابًا لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَالثَّانِيَةُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، أُنْزِلَتْ خِطَابًا لِلْيَهُودِ وَلِنَصَارَى نَجْرَانَ حِينَ قَدِمُوا؛ وَلِهَذَا اتَّصَلَ بِهَا ذِكْرُ الْمُحَاجَّةِ وَالْمُبَاهَلَةِ.